تمهيد:

ماذا لو بدأنا من الصفر؟

لا يوجد نظام تدريبي (Learning Management System - LMS)، ولا مرجع تعليمي نحتكم إليه، ولا حتى  تعريف واضح لما يجب أن يكون عليه التعلّم في واقع العمل المعقد اليوم.

ضمن هذهِ الافتراضات، طرحنا سؤالًا واحدًا:

كيف نبني نظامًا تدريبيًا ينمو ويحقق أثرًا طويل المدى في عقل المتدرّب؟

بهذا المنهج من التفكير، وُلدت فلسفة "عناصر التدريب الإنساني"، 12 عنصرًا استخلصناها بعد بحث عميق، وقراءة عشرات الكتب المتخصصة، ومراجعة ممارسات عالمية، حتى توصّلنا إلى معادلة التدريب التي تجعل المتدرّب يفكّر، ويطبّق، ويصنع التغيير.

في هذه السلسلة، سنفكّك التصوّرات الخاطئة عن كل عنصر، ونقدّمه من جديد برؤية مختلفة مدعومة بنموذج تصميم تدريبي استراتيجي (Strategic Instructional Design Framework)، إضافةً إلى توضيح كيفية تُجسيد هذه الرؤية في نظام مساق التدريبي.

بعد أن ناقشنا المتدرّب ودوره كعنصر لإحداث التغيير المؤسسي، سنتعمق ونغوص في العنصر الثاني، المدرّب.

استقلالية المدرّب لا تمنع تأثيره على الثقافة المؤسسية

لا يخفى على أي شخص، أنه بمجرد إعارته لمسلسل تلفزيوني، فيلم سينمائي، أو بودكاست، أذنه لسماعه، وعينه لمشاهدته، فإنه يمنحه ضمنيًا عقله أيضًا. تداعيات التأثير الذي تتركه وسائل الإعلام في العقل قد تظهر بشكل فوري، وقد تستغرق سنوات لحين طفو نتائج هذا التأثير من العقل اللاواعي إلى العقل الواعي.

هذا، والمادة الإعلامية لا تملك أي مرجعية أو مكانة اجتماعية تكسبها المصداقية أو الأفضلية سوى أنها مادة ترفيهية. فكيف هو الحال مع المدرّب الذي من شأن خبرته المهنية، ومعرفته الأكاديمية، وموقعه كمدرّب داخل منظومة التعلم المؤسسي (Learning Ecosystem)، أن يكسبه مرجعية ومكانة تجعل التسليم بنظرياته، ومحاكاة أفكاره طواعية أسهل.

الاعتقاد بأن المدرّب شخص مستقل يقتصر دوره على إيصال المعلومات وتطبيق المهارات، من دون تشكيل ما هو مقبول ومرفوض من ناحية التطبيقات المهنية وحتى أخلاقيات العمل، لا يستقيم مع واقع التأثير الذي يمارسه المدرّب.

فالمدرّب، وإن كان مستقلًا، باستطاعته أن يكون شريكًا في تعزيز هوية الثقافة المؤسسية أو ترهلها من خلال تأطير المحتوى التدريبي (Training Content Framing)، واختيار الأمثلة التي يطرحها، والنقاشات التي تدور بينه وبين المتدرّبين. كل ذلك ينعكس بشكل مباشر على السلوكيات المهنية داخل المؤسسة، ويؤثر ضمنيًا على نقل التعلم الضمني (Implicit Learning Transfer) في الممارسات اليومية.

هذه السلطة الضمنية تبيّن أن المدرّب ليس طرفًا محايدًا، بل شريكًا في تفعيل التحول المؤسسي عبر المحتوى التدريبي والسلوكيات التي يزرعها داخل بيئة التدريب.

التصور الخاطئ بأن دور المدرّب يقتصر على نقل المحتوى، في حين أنه يساهم ضمنيًا في تشكيل طريقة تفكير المتدرّب وسلوكه المهني.

زوايا عمياء في النظر للمتدرّب

قبل أن نشرع بإيجاد الحلول، لا بد أن نتعمق أولًا في عنصر المدرّب، ونصحّح الأفكار المغلوطة عنه.

المدرّب دليل إرشادات

عندما تقوم بشراء طاولة تحصل معها على دليل إرشادي يوجهك إلى الخطوات التي يجب عليك اتباعها لتركيب الطاولة. ولأن سيناريو تركيب الطاولة تحكمه عناصر ثابتة، ولا تؤثر عليه عوامل خارجية، فاستخدام الدليل في هذه الحالة يُعد منطقيًا ومناسبًا. أمّا في سياق التدريب المهني، الحال هو النقيض تمامًا. فلا يستطيع المدرّب أن يمنح المتدرّب دليل كامل يحوي الإجراءات التي يجب عليه القيام بها لكل سيناريو محتمل نظرًا لتعدد الأطراف، وصعوبة التحكم في العوامل المحيطة. لذلك، معاملة المنهج التدريبي والمدرّب كدليل إرشادي يتبعه المتدرّب من غير تفكير لا يحقق الهدف من التدريب.

دور المدرّب ليس إعطاء المتدرّب وصفات معلبة يطبقها بشكل تلقائي، إنما دوره تدريبه على مهارات اتخاذ القرار (Decision-Making Training) داخل بيئات العمل المعقدة، وتمكينه من تكييف المفاهيم والنظريات لتتواءم مع واقعه المهني، بحيث تكون لديهم القدرة على التكيّف، وتغيير الخطة، واتخاذ القرار تحت الضغط. الواقع المهني لا يسير على مسار خطيّ، بل يتغيّر بتسارع، ويحتوي على متغيّرات غير قابلة للتنبؤ، ما يجعل فكرة الدليل الجاهز غير مجدية عمليًا.

تصور المدرّب كمرشد يقدّم خطوات جاهزة، بينما دوره الحقيقي هو تمكين المتدرّب من اتخاذ القرار داخل بيئة غير مستقرة.

رضا المتدرّبين هو المعيار الأهم لنجاح التدريب

ما رأيك أن تقوم بتجربة الآن: ادخل إلى أي رواية في موقع جودريدز واقرأ التقييمات المنشورة، ستلاحظ أن أغلب التقييمات، سواء حصلت على نجمة واحدة أو خمس نجمات، نابعة من مدى إعجاب القارئ بلغة الرواية، وانغماسه في أحداثها، وتعلقه بشخوصها. هذا لأن الهدف الرئيسي للمادة الروائية هي الإمتاع، فيُتخذ مدى تحقق الاستمتاع كمعيار رئيسي في تقييم الرواية. 

ولكن، بالطبع، هدف التدريب ليس إمتاع المتدرّب أو تسليته. فلماذا يُقيَّم أداء المدرّب بناءً على معيار واحد فقط، وهو رضا المتدرّب، مع أن هذا المعيار، إلى جانب نسبة إكمال الدورة التدريبية، قد يعكس مدى تفاعل المتدرّبين واستمتاعهم بالتجربة، أو يقدّم مؤشرًا كميًا عن عدد الذين اجتازوا الدورة، إلا أنه لا يعكس بالضرورة مدى تحقيق المتدرّبين لأهداف التدريب،

أو قدرتهم على تطبيق المفاهيم والنماذج التدريبية في سياق العمل اليومي.

المعيار الحقيقي لقياس جودة التدريب هو أثره الفعلي على سلوك الموظف بعد انتهاء الدورة، وهذا ما تكشفه أدوات قياس نتائج التعلّم (Learning Outcome Measurement) عبر تتبّع التغيرات في سلوك الموظف وأدائه داخل بيئة العمل.

الاعتقاد بأن نجاح التدريب يُقاس برضا المتدرّبين فقط، في حين أن المعيار الحقيقي هو التغيير في الأداء والسلوك.

تصميم التدريب لمعالجة المشكلات الحالية

تخيّل أن مصنعًا يستخدم مواد شديدة الاشتعال، ولكن على صعيد الإحترازات والإجراءات الوقائية يكتفي بالتعامل مع الحرائق عند وقوعها، من دون أن يُراجع تصميم شبكته الكهربائية، أو يبني نظام إنذار مبكر. قد ينجح في السيطرة على أول حريق، لكنه يبقى معرّضًا للخطر في أي لحظة. 

بصورة مشابهة، حين تركّز المؤسسة في تدريبها على معالجة المشكلات الظاهرة فقط، فإنها تتعامل مع الواقع بعقلية "رد الفعل"، وتغفل عن التحولات القادمة المتسارعة. فالمؤسسات اليوم تحتاج إلى تدريب لا يعالج اللحظة فقط، بل يُعدّ الموظفين لمواجهة المستقبل واتخاذ القرار تحت ظروف غير مكتملة (Decision-Making Under Uncertainty). وإلا ستنشأ فجوة عميقة بين قدرات الموظفين الحالية وما سيتطلّبه العمل بعد عام أو اثنين، ويُهدر بذلك الاستثمار التدريبي في مطاردة المشاكل بدلاً من بناء الجاهزية المؤسسية (Organizational Readiness).

عندما لا يحقق التدريب أثره المنشود، يُلقى اللوم عليه، في حين أن المشكلة الحقيقية تكمن في طريقة توجيه المؤسسة للتدريب وليس في التدريب نفسه. 

تصميم التدريب لحل مشكلات الحالية فقط، من دون إعداد الموظفين للتحديات المستقبلية المتوقعة.

إعادة تعريف المدرّب في منظومة التدريب

في بداية كل سنة جديدة، تمتلئ المذكرات بأهداف، وأحلام، وخطط، ولكنها تبقى مجرد حبر على الورق، لأن النوايا وحدها لا تحوّل الرؤية إلى المستوى العملي.

كذلك على الصعيد المهني، تصوغ المؤسسات رؤى وإستراتيجيات طويلة المدى، لكنها تبقى حبيسة الأدراج، ولا تُطبَّق على أرض الواقع، فينتهي بها الحال إلى أن تكون شكليات مكملة للصورة.

إذا كان دور المتدرّب هو تحقيق أهداف المؤسسة وإحداث التحوّل المؤسسي (Organizational Transformation)، فإن دور المدرّب هو تصميم رحلة الانتقال من الرؤية الإستراتيجية إلى الممارسة التشغيلية اليومية. المدرّب ليس ناقلًا للمعرفة، بل مصمم للتجربة التدريبية (Training Experience Designer)، فيبني وحدات تُدرب الموظف على اتخاذ القرار داخل بيئة العمل (Workplace Decision-Making)، ويفكّك القناعات القديمة ليزرع أخرى تتماشى مع التوجّه المؤسسي الجديد، ويخلق بيئة آمنة للتجريب تسمح للمتدرّب بالتفكير، واتخاذ القرار، والتعلّم من تبعاته.

لا يُدرك أثر التدريب إذا عُومل كحدث منفصل عن واقع العمل. لكن متى ما صُمِّم التدريب ليتكامل مع النظام المؤسسي (System Integration)، ويترجم الرؤية الاستراتيجية إلى خطوات عملية، أصبح أداة فعّالة في بناء قدرات الموظف وتحقيق أثر التدريب (Training Impact) بشكل ملموس على أرض الواقع.

ترجمة رؤية المؤسسة الاستراتيجية في البرنامج التدريبي

التدريب بهدف إحداث التغيير المؤسسي، يضع هذا المفهوم المتدرّب كعنصر محرّك في المنظومة التدريبية، فمن خلاله تُكتشف الثغرات في المؤسسة، وإليه يُصمم البرنامج التدريبي لتأهيله وتمكينه من تحقيق التغيير المؤسسي، كما ذكرنا بالتفصيل في مقال المتدرّب. ولكن المنظومة التدريبية لا تكتمل من دون وجود المدرّب الذي يكمن دوره في ترجمة رؤية المؤسسة الاستراتيجية على الممارسات التشغيلية اليومية، ولا يستطيع تحقيق ذلك إذا صمّم البرنامج التدريبي بمعزل عن رؤية المؤسسة الاستراتيجية.

حتى لا يتحوّل تصميم البرنامج إلى عملية سطحية أو عشوائية، يحتاج المدرّب إلى معايير واضحة لترجمة الرؤية الاستراتيجية إلى ممارسة واقعية. من هنا، صممنا مقياس جودة المحتوى التدريبي لمساعدة المدرّب على فحص البرنامج عبر 6 معايير تُستخدم لاختبار مدى قدرة المحتوى على تأهيل المتدرّب لتطبيق الرؤية في ممارساته اليومية.

تطبيق هذهِ المعايير، يجعل المحتوى التدريبي يتسق مع الرؤية المؤسسية، ويشعر المتدرّب أن ما يتلقاه يحاكي السيناريوهات والتحديات المهنية اليومية التي يتعرض لها. بالتالي، يسير كلٌ من المدرّب والمتدرّب نحو هدف واحد:تحقيق رؤية المؤسسة وإحداث التغيير المؤسسي. 

كيف يمكّن نظام مساق التدريبي المدرّب في ترجمة الرؤية الاستراتيجية للمؤسسة؟ 

رغم أهمية تصميم البرنامج التدريبي بما يتوافق مع رؤية المؤسسة، إلا أن هذه الخطوة وحدها لا تكفي لإحداث التغيير المؤسسي المنشود. يحتاج المدرّب إلى أدوات متكاملة تمكنه من إدارة ومتابعة التدريب ليتمكّن من اتخاذ قرارات تصحيحية بشكل مستمر وواعٍ. تجاهل هذه الخطوة، يجعل التدريب أقرب إلى التجربة العشوائية التي قد تبلغ الهدف، وقد تنحرف عنه.

في نظام مساق التدريبي، يحصل المدرّب على مجموعة من المزايا تمكّنه من إدارة العملية التدريبية ككل:

1. لوحة التحكّم في نظام إدارة التعلّم
تمكّن المدرّب من إنشاء الدورات وجدولتها، متابعة تقدّم المتدرّبين، تحليل التفاعل، واتخاذ قرارات دقيقة من مكان واحد.

2. إدارة كيانات متعددة
إنشاء منصات مستقلة داخل النظام الواحد، لكل كيان محتواه وهويته، مع إمكانية إدارتها جميعًا من لوحة مركزية موحدة.

3. التقارير التفاعلية
عرض أداء المتدرّبين، وفعالية المحتوى، وتفاعل المستخدمين في لوحات مرئية، لتسهّل اتخاذ قرارات مدروسة دون جهد إضافي.

4. تقارير التفاعل والسلوك
تحلّل سلوك المتدرّب داخل الدورة: مثل التوقف، الإعادة، التفاعل، والمشاركة، لتساعد على تحسين التجربة التدريبية.

5. تقارير الالتحاق والتقدّم
توفر للمدرّب رؤية دقيقة لحالة تسجيل المتدرّبين وتقدّمهم، مع إمكانية تصدير البيانات لاتخاذ قرارات مبنية على مؤشرات حقيقية.

6. تقارير الاستخدام
تقدّم للمدرّب نظرة على أوقات الدخول، وتكرار الاستخدام، وأنماط التفاعل، ما يتيح ضبط الدعم الفني وجدولة التدريب بكفاءة.

7. إنشاء تقارير مخصصة
يمكن تصميم تقارير تفصيلية حسب أهداف كل جهة أو فئة تدريبية، ليصل كل مشرف أو مدير إلى المعلومة التي يحتاجها فورًا.

8. ملف المتدرّب الإلكتروني
يعرض معلومات المتدرّب، المسارات المسجّلة، الأداء، والصلاحيات من مكان واحد، مع إمكانية تعديل البيانات وتصديرها بسهولة.

9. إدارة تجربة المتدرّب
توفر أدوات لمتابعة التقدّم، وتخصيص الصلاحيات، وتقديم الدعم المناسب، لضمان تجربة تدريبية مرنة وسلسة دون أعباء إضافية.

تتيح هذهِ الأدوات للمدرّب والمؤسسة إدارة العملية التدريبية، وتسريع الوصول إلى الأهداف بكفاءة وسلاسة.

خلاصة: ما هو دور المدرّب في المنظومة التدريبية؟

التدريب ليس مجرد مادة مكتوبة أو محتوى مُحمّل على منصة، بل تجربة يصوغها المدرّب في كل تفصيل لتأهيل المتدرّبين لتحويل رؤية المؤسسة الاستراتيجية من المستوى النظري إلى العملي.

حين يُفهم دور المدرّب باعتباره نقطة التحوّل التي تنتقل من خلالها رؤية المؤسسة من الورق إلى الواقع، يصبح وجوده امتدادًا استراتيجيًا لا تقنيًا. هو ليس مجرّد ميسّر، بل مهندس التغيير، يُعيد تصميم بيئة التدريب لتحاكي بدقة بيئة العمل الحقيقية. عندما يُمنح المدرّب الأدوات التي تمكّنه من القياس، والتحليل، والتعديل المستمر، يتحوّل التدريب إلى نظام حي يستجيب بذكاء للمتغيرات، ويصقل مهارات حقيقية تتماشى مع تعقيدات العمل.

في هذا الإطار، لا تعود جودة التدريب مرهونة بإعجاب المتدرّب، بل بقيادة المدرّب. ولا يُقاس النجاح بنسبة إكمال الدورة، بل بنسبة ترجمة الرؤية المؤسسية إلى ممارسة يومية على أرض الواقع.