التدريب الإنساني

المتدرّب كعنصر لإحداث التغيير في المؤسسات

26 يونيو 2025

تمهيد

ماذا لو بدأنا من الصفر؟

لا يوجد نظام تدريبي (Learning Management System - LMS)، ولا مرجع تعليمي نحتكم إليه، ولا حتى  تعريف واضح لما يجب أن يكون عليه التعلّم في واقع العمل المعقد اليوم.

ضمن هذهِ الافتراضات، طرحنا سؤالًا واحدًا:

كيف نبني نظامًا تدريبيًا ينمو ويحقق أثرًا طويل المدى في عقل المتدرّب؟

بهذا المنهج من التفكير، وُلدت فلسفة "عناصر التدريب الإنساني"، 12 عنصرًا استخلصناها بعد بحث عميق، وقراءة عشرات الكتب المتخصصة، ومراجعة ممارسات عالمية، حتى توصّلنا إلى معادلة التدريب التي تجعل المتدرّب يفكّر، ويطبّق، ويصنع التغيير.

في هذه السلسلة، سنفكّك التصوّرات الخاطئة عن كل عنصر، ونقدّمه من جديد برؤية مختلفة مدعومة بنموذج تصميم تدريبي استراتيجي (Strategic Instructional Design Framework)، إضافةً إلى توضيح كيفية تُجسيد هذه الرؤية في نظام مساق التدريبي.

نبدأ من حيث يجب أن نبدأ دائمًا: من المتدرّب.

هل فعلاً يبدأ المتدرّب من الصفر؟

تشييد البناء عملية متراكمة؛ فكل عامل يكمل بناء اليوم من حيث انتهى بالأمس. فلو بدأ كل يوم من الصفر، لما تحقق أي تقدم أو إنجاز يُذكر.

رغم بداهة المثال أعلاه، إلا إننا لا نجده حاضرًا في سياق التدريب وتحديدًا في ما يجب أن تكون عليه الرحلة التدريبية المتكاملة، فالمتدرّب يتلقى الدورة التدريبية في ظل وجود افتراض مسبق أنه لا يعرف أساسيات المادة التدريبية، وغير مطلع على العالم المحيط به، فيبقى المنهج التدريبي عالقًا في السطح، محصورًا على البديهيات، ومتمسكًا بالأبجديات. في حين أن الواقع هو العكس تمامًا.

باستطاعة المتدرّب اليوم الحصول على إجابة أي سؤال بضغطة زر، والإطلاع على عشرات الكتب في أي موضوع خلال ساعات، ومعرفة آخر الدراسات فور صدورها. ولكن، هذهِ الحقيقة بحد ذاتها لا تجعله في غنى عن التدريب، لأن ليس كل ما يطلع عليه يتناسب مع واقعه، وليس كل ما يقرأه صحيح لا تشوبه شائبة.

المتدرّب اليوم بحاجة إلى التمكين في استثمار المعارف التي بين يديه، ونقدها وتطويرها ثم وضعها قيد التطبيق. هو بحاجة إلى تدريب يصقل مهاراته ويشحذ أدواته، ليتمكّن من التفكير، والابتكار، وتحسين أداءه الوظيفي، وبالتالي تحقيق أهداف المؤسسة، لا مجرد حفظ محتوى الدورة.

فارق الواقع مقابل الافتراض في معرفة المتدرّب عند تصميم البرامج التدريبية المؤسسية.


زوايا عمياء في بناء البرامج التدريبية

قبل أن نشرع بإيجاد الحلول، لا بد أن نتعمق أولًا في عنصر المتدرّب، نفهم احتياجاته، ونصحّح الأفكار المغلوطة عنه. 

انفصال التدريب عن الواقع المؤسسي

قبل أن يقدم أخصائي التغذية أي نظام غذائي لمراجعه يستفسر بدايةً عن جملة من الحقائق مثل: عمر المراجع، طوله، ووزنه، وهدفه من النظام الغذائي، وإلى آخره من التفاصيل، كي يستطيع أن يصمم برنامج غذائي يتناسب مع حالة المراجع الخاصة. ولكن، إذا صمم له أخصائي التغذية نظام غذائي من دون معرفة المعلومات المتعمقة عن حالته، لن بعيره اهتمامًا على الأغلب أو يستمع له. كذلك، عندما يُقدَّم للمتدرّب معلومات عامة لا تأخذ مسماه الوظيفي، وأهدافه المهنية، والتحديات التي يواجهها بعين الاعتبار، فلن يأخذ التدريب على محمل الجد، لأنه يشعر إنه مجرد حشو معلوماتي لا يخدم السياق الذي هو فيه. 

صياغة التدريب في سياق نظري بحت ينتج محتوى تدريبي بعيدًا عن الواقع المهني وتحدياته المهنية المباشرة، مما يجعل المتدرّب يتجاهل التدريب ويعتقد أنه لا يخدمه.

لم يعد التلقين يتناسب مع مستوى المتدرّب اليوم، فالأساسيات يعرفها ويستطيع الحصول بكل سهولة، ولكن ما يحتاجه هو المعرفة التخصصية التي تحاكي تحدياته وتطرح طرق معالجتها والتعامل معها عبر نقل المعرفة التطبيقي (Applied Knowledge Transfer).

ضرورة تخصيص التدريب بناءً على الواقع المهني الذي يعيشه المتدرّب بدلاً من التدريب العام السطحي.

وهم "التحوّل السريع" في التدريب المؤسسي

مثل أنك لا تتوقع من البذرة أن تتحول إلى شجرة بمجرد سقيها بالماء، كذلك لا يُتوقع من المتدرّب ينتقل من مستوى إلى آخر لمجرد حضوره دورة تدريبية. التدريب ليس مجرد حدث يبدأ ببداية الدورة التدريبية وينتهي بانتهائها، بل هو نتاج تراكمي لما يمارسه المتدرّب أثناء عمله، والتحديات التي يواجهها ويسعى لتجاوزها، والمواضيع المهنية التي يناقشها مع زملائه ضمن البيئة المهنية (Workplace Learning).

اختزال التدريب في دورة تدريبية وتوقع قيامه بتأهيل المتدرّب لحل المشكلات المؤسسية ما هو إلا تسطيح لمفهوم التدريب. يحقق التدريب نتائج فعلية عندما تتم معاملته كثقافة مؤسسية تصقل المتدرّب ومهاراته في كل ما يقوم به وبصورة مستمرة، وليس كحدث موسمي. 

التصور الخاطئ لتحوّل المتدرّب اللحظي في حين أن التدريب عملية تراكمية طويلة المدى.

حصر المتدرّب في دور المتلقي

في الوقت الذي يُتوقع فيه من المتدرّب أن يوافق على جميع النظريات التي تُنقل له، ويؤمن بالحلول التي تُرشّح، ويطبق كل ما يُعرض عليه طواعية، يحدث التدريب الحقيقي حين يسمح للمتدرّب بأن يتساءل، ويشكك، وينقل تجربته الشخصية. التجربة الميدانية التي يمتلكها المتدرّب تخوله لنقد المفاهيم، والنقاش، والاعتراض على الأطروحات.

عند ذلك تتأصل قيمة التدريب كعملية تفاعلية إنسانية، لا تلقي سلبي وهيمنة طرف واحد في التدريب.

أهمية التفاعل المتبادل بين المدرّب والمتدرّب في البرامج التدريبية المؤسسية.

إعادة تعريف المتدرّب في منظومة التدريب

عندما يُنظر للمتدرّب على أنه حالة فردية مستقلة عن المؤسسة، ويُنتظر منه أن يحقق الأهداف المؤسسية المطلوبة منه، يفقد البوصلة التي ترشده للطريق، ويضيع بين واقعه الحالي، والتوقعات التي يسعى لتحقيقها. 

كل نقطة ضعف في المتدرّب قد تعكس نقطة ضعف مؤسسية غير معلنة. على سبيل المثال، عندما يتواصل المتدرّب مع زملائه من نفس القسم بدرجة أعلى وتفاهم أكبر من زملائه من الأقسام الآخرين، لا نستطيع الحكم عليه فورًا بالانتقائية أو أخذ الموضوع لمنحنى شخصي. إعادة النظر وتقييم الموقف من زاوية مختلفة قد يكشف أن المؤسسية نفسها لم تبنِ الثقافة اللازمة لإرساء سبل العمل والتواصل بين أقسام المؤسسة المختلفة. فهذا الضعف في أداء المتدرّب يمثل انعكاس لما تعاني منه المؤسسة من ثغرات داخليًا. 

المتدرّب ليس المستفيد الأخير من التدريب، بل هو الوسيلة التي يمكن من خلال تمكينها تحقيق أهداف المؤسسة. لذلك، عوضًا أن يكون السؤال عند تصميم الدورة التدريبية: ما هي أهداف الدورة؟ يجب أن يطرح سؤالًا آخر وهو: كيف نصمم دورة تؤهل المتدرّب لتحقيق أهداف المؤسسة؟ 

عند هذهِ النقطة تحديدًا، نأخذ الخطوة الأولى لتحويل التدريب من مستوى التنظير إلى تصميم الأثر التدريبي (Training Impact Design) الذي يترجم التدريب إلى نتائج قابلة للقياس في الأداء المؤسسي.

المتدرّب كمرآة تعكس تحديات المؤسسة وضعف أنظمتها الداخلية من حيث القيادة والثقافة والسياسات.

تصميم التدريب بهدف إحداث التغيير المؤسسي 

لا تدرّب المؤسسات موظفيها بهدف إكمال الدورة التدريبية والإعلان عن ذلك في منشور على لنكد إن. الهدف الحقيقي من التدريب في المؤسسات هو إحداث التغيير، فالمتدرّب هو أداة التغيير في المؤسسة وبالاستثمار فيه تتحقق الرؤى.

مفهوم التدريب بهدف إحداث التغيير المؤسسي يساعد المؤسسات على وضع فكرة التغيير بعين الاعتبار في كل خطوة من خطوات تصميم الدورة التدريبية، ضمن خمس مراحل:

فهم واقع المؤسسة:

تحليل السلوكيات اليومية للموظفين، لفهم التحديات الفعلية التي تعيق الأداء، وتحديد الفجوات الحقيقية داخل المؤسسة.

تحديد التغيير:

ما السلوك أو النتيجة التي يجب أن تتغير؟ هل الهدف هو رفع جودة اتخاذ القرار؟ تعزيز العمل الجماعي؟ تسريع الإنجاز؟ هذه المرحلة ترسم المخرجات المتوقعة من التدريب.

تصميم التجربة التدريبية المرتبطة بالواقع:

بدلاً من تقديم محتوى نظري عام، تُبنى التجربة التدريبية لمحاكاة ما يواجهه الموظف فعلًا، من مواقف يومية وتحديات تشغيلية.

تخصيص التدريب بحسب المهام والوظائف:

لا يخدم المحتوى العام جميع الموظفين. التدريب الفعّال يُفصّل بحسب مهام كل فئة وظيفية، ليتناسب مع واقعها ومسؤولياتها.

قياس أثر التدريب:

تُقاس جودة التدريب بما يحدث بعده، من تغيرات في أداء الموظف وسلوكياته، ومدى انعكاس ذلك على مؤشرات الأداء المؤسسي.

لا يعامل هذا المفهوم التدريب كمحتوى تعليمي تقليدي منفصل عن واقع العمل، بل كمنظومة تحول مؤسسي متكاملة. بهذا النهج يصبح التدريب أداة تشغيل حقيقية في يد المؤسسة، يترجم الرؤية الاستراتيجية إلى سلوك يومي ملموس داخل فرق العمل.

كيف يمكن للمؤسسات تصميم تدريب يحقق التغيير باستخدام مساق؟ 

الاعتقاد بأن دورة تدريبية واحدة قادرة على إحداث طفرة في أداء المتدرّب، لا يقتصر على المتدرّب نفسه، بل يمتد إلى المؤسسات نفسها، ولكنه، مع الأسف يبقى توقع مبالغ فيه ولا يمكن تحقيقه على أرض الواقع. أغلب المؤسسات تتعامل مع التدريب بعقلية تأثيث منزل جديد، فتسعى لتدريب الموظف بصورة دفعات مجزّأة غير مرتبطة ببعضها البعض في كل مرة يُكتشف فيها خلل في أدائه. فيحضر المتدرّب دورة في البيع لأنه لم ينجح في إغلاق صفقة ما، وبعد شهر يحضر دورة في الذكاء العاطفي بسبب سوء فهم حصل بينه وبين زميل له، وهكذا تستمر العشوائية في التخطيط للتدريب، فتُهدر الجهود والأموال، من غير أي نتيجة تُذكر. 

ما تحتاج إليه المؤسسات حقًا هو تصميم مسار تدريبي مخصص (Customized Learning Paths) ينطلق من تحديد هدف مؤسسي واضح ترغب بتحقيقه، ثم تُبنى عليه تجربة تدريبية متكاملة تخدم هذا الهدف من جميع زواياه. فعندما يصبح الهدف في مقدمة التخطيط، تتم دراسة كافة المهارات والمعارف المطلوبة لتحقيقه، ليخرج المتدرّب من التجربة التدريبية وقد امتلك القدرة الفعلية على تنفيذ المهمة المطلوبة بكفاءة كاملة، وقادرًا على تحقيق أثر حقيقي في المؤسسة.

لهذا صممنا في مساق ميزة المسارات التعليمية، فبدلاً من أن يكون التدريب عامًا أو مجزءًا، يصبح تجربة ممنهجة مرتبطة مباشرة بالفجوات المهارية الحقيقية داخل المؤسسة.

فعلى سبيل المثال: عندما ترغب المؤسسة في بناء قدرات موظفيها على إطلاق المبادرات المجتمعية ضمن مسؤوليتها المؤسسية، لا يتم الاكتفاء بدورة واحدة أو موضوعات سطحية، بل يدخل المتدرّب في مسار تدريبي متكامل يغطي:

تصميم فكرة المبادرة وربطها بالاستراتيجية المؤسسية

تحليل الجدوى المجتمعية وتقدير الأثر المتوقع

التخطيط المالي وإدارة الميزانية للمبادرة

إدارة فرق العمل المتعددة والتعاون بين الأقسام

تطوير الاتصال المؤسسي وبناء الشراكات المجتمعية

تنفيذ المبادرة ومتابعة الأثر وتقييم النتائج

حوكمة المبادرة وضمان استدامتها ضمن إطار الأداء المؤسسي

بهذا النهج، يتحوّل التدريب من نشاط تدريبي إلى عملية تصميم تأثير استراتيجي (Organizational Training Impact) تنعكس نتائجه بصورة مباشرة على منظومة الأداء الكلي للمؤسسة.

خلاصة: لماذا يبدأ التدريب من المتدرّب؟

في نهاية هذه الرحلة من إعادة التفكير في المتدرّب، نعود إلى جوهر المسألة:

التدريب ليس محطة مؤقتة يُتوقف عندها، بل رحلة متكاملة تعبر بالمؤسسة نحو أهدافها الاستراتيجية.

حين يُفهم المتدرّب باعتباره امتدادًا لهوية المؤسسة ووسيطًا لتحقيق تحولها، يصبح التدريب أداة إنتاج حقيقية لا مجرد نشاط تطويري معزول. وعندما يُصمّم التدريب بوصفه منهج تغيير مؤسسي، فإن كل استثمار تدريبي يتحوّل إلى خطوة محسوبة داخل رحلة التحوّل الأكبر للمؤسسة.

بهذا التصور، لا يعود النجاح التدريبي مرهونًا بعدد الدورات أو عدد المشاركين، بل يُقاس بقدرته على إعادة تشكيل سلوك المتدرّبين بما ينعكس مباشرة على الأداء المؤسسي الكلي.