التدريب الإنساني

أهداف المعرفة كأداة لتشكيل المسؤولية الفكرية

13 يوليو 2025

تمهيد:

ماذا لو بدأنا من الصفر؟

لا يوجد نظام تدريبي (Learning Management System - LMS)، ولا مرجع تعليمي نحتكم إليه، ولا حتى  تعريف واضح لما يجب أن يكون عليه التعلّم في واقع العمل المعقد اليوم.

ضمن هذهِ الافتراضات، طرحنا سؤالًا واحدًا:

كيف نبني نظامًا تدريبيًا ينمو ويحقق أثرًا طويل المدى في عقل المتدرّب؟

بهذا المنهج من التفكير، وُلدت فلسفة "عناصر التدريب الإنساني"، 12 عنصرًا استخلصناها بعد بحث عميق، وقراءة عشرات الكتب المتخصصة، ومراجعة ممارسات عالمية، حتى توصّلنا إلى معادلة التدريب التي تجعل المتدرّب يفكّر، ويطبّق، ويصنع التغيير.

في هذه السلسلة، سنفكّك التصوّرات الخاطئة عن كل عنصر، ونقدّمه من جديد برؤية مختلفة مدعومة بنموذج تصميم تدريبي استراتيجي (Strategic Instructional Design Framework)، إضافةً إلى توضيح كيفية تُجسيد هذه الرؤية في نظام مساق التدريبي.

هذا المقال عن ما الذي يجعل المتدرّب يدخل في عقلية التدريب: أهداف المعرفة.

أهداف معرفة، لا تُنتج معرفة

تخيّل أن أبًا يريد تعليم ابنه استخدام برنامج الماسنجر، لأنه البرنامج الوحيد الذي يعرفه. المثال يبدو ساخرًا، وربما مستحيلًا، فمن يستخدم الماسنجر أصلًا اليوم؟ لكن هذا ما يحدث حين يتحوّل التدريب في المؤسسات إلى إعادة تدوير لما تعرفه الإدارة، بدلًا من أن يكون أداة لفهم الواقع وصناعته. عند تصميم البرامج التدريبية، تظن المؤسسة، باستنادها على محتوى مأخوذ من دورات قديمة، أو نظريات فقدت صلاحيتها، أنها تنقل المعرفة في حين أنّ المتدرّب لا يحتاج إلى المعرفة الجاهزة، بل إلى معرفة تُبنى على أسئلته، والتحديات التي يواجهها في بيئته المهنية.

أصل المشكلة ليس المحتوى نفسه، بل الجذور المتمثلة في أهداف المعرفة نفسها، حين تُصاغ أهداف تهدف إلى تدريب المتدرّب على نظرية واحدة، ونموذج واحد، ومهارة واحدة، فيُحصر في زاوية ضيقة من التفكير والتطبيق، ويُمنع من استخدام عقله بمرونة. فتكون النتيجة متدرّبًا يتقن التطبيق الأعمى، بدلاً من أن يكون قادرًا على الاختيار، والتحليل والشك، واتخاذ القرار.

ما يحتاجه المتدرّب هو العكس تمامًا: أهداف تنطلق من واقعه، وتوسّع أفقه لا تحصره. تُدربه على التفكير الحر، لا التفكير الخطي. وتمنحه أدوات متنوعة، لا وصفة جاهزة واحدة. فقط في هذه الحالة، تصبح أهداف المعرفة المؤسسية أداة للتغيير الحقيقي، لا مجرد سرد خالٍ من التطبيق.

حصر أهداف المعرفة في نموذج واحد يدرّب المتدرّب على السير في مسار مغلق لا يسمح له بالاختيار. أما حين تصاغ الأهداف بطريقة تفتح المجال للتجريب، يصبح التفكير فعلًا حرًا، لا تكرارًا مألوفًا.

زوايا عمياء في صياغة أهداف المعرفة

قبل أن نشرع بإيجاد الحلول، لا بد أن نتعمق أولًا في أهداف المعرفة، ونصحّح مسار صياغتها. 

أهداف المعرفة في بيئة لا تدعمها

على الرغم من معرفة المزارع بكيفية اختيار البذور بعناية، وزرعها في التربة المناسبة، وضبط الريّ والتسميد بدقة، غير أن كل هذه المعرفة لن تمكنّه من الزراعة في تربة هامدة. كذلك في سياق التدريب، معرفة المتدرّب بحد ذاتها لا تضمن قدرته على تطبيق المعرفة في المؤسسة ما لم تدعمه البيئة. تحمّل بعض المؤسسات المتدرّب مسؤولية التدريب، ووضع المعرفة قيد التطبيق في بيئة غير مستعدة لاستقبالها.

عند صياغة أهداف معرفية تُشيد بأهمية اتخاذ القرار، وفهم اللوائح، ورفع مستوى التفكير المهني، ثم يعود المتدرّب إلى بيئة عمل لا تمنحه صلاحية القرار، ولا وقتًا للتفكير، ولا مساحة للخطأ، فيكون تدريبه مصممًا لكي يعرف كيف يفكر، بينما الواقع لا يسمح له بالتفكير. في هذه الحالة، تصبح أهداف المعرفة مجرد قناع احترافي (Training Masking)، يُخفى به عجز المؤسسة عن التغيير.

تتجسد المعرفة القابلة للتطبيق حين يستطيع المتدرّب تطبيقها وتفعيلها، لا مجرد تلقيها. التدريب نظام متكامل، والمتدرّب جزء منه، ولا يحدث التغيير بتغيير جزء واحد من النظام.

لا يمكن لأهداف المعرفة أن تتحقّق حتى لو كانت مصمّمة بإتقان، إذا أعيد المتدرّب إلى بيئة عمل تمنعه من اتخاذ القرار أو التفكير. البيئة الجامدة تُطفئ أثر المعرفة، بينما البيئة الداعمة تحوّل التفكير إلى ممارسة.

 أهداف معرفة تجمّد التفكير

حين تُصاغ المادة التدريبية بأهداف معرفية تُنمّي التفكير، تختلف كليًا عن صياغتها بأهداف تُوجّه نحو التلقين. فالأولى تتيح للمتدرّبين مساحة للنقد، والشك، والتساؤل، بينما الثانية لا تنتظر منهم سوى الموافقة والتكرار.

حين يُدرَّب الموظف على فهم السياسات، لا على مساءلتها، وعلى استيعاب الإجراءات، لا على تحليلها، فلا تُنمَّى مهارات التفكير النقدي في بيئة العمل (Critical Thinking in the Workplace) عند المتدرّب، بل يُدرَّب على نوع ناعم من الامتثال المعرفي؛ امتثال لا يبدو قسرًا، لكنه يخلق عقلاً وظيفته الاستماع والتطبيق. وهنا لا تكون أهداف التعلم (Learning Outcomes) وسيلة لتطوير الفهم، بل أداة لضبط الفهم. فيُطلب من المتدرّب أن يوافق على ما قُدّم له، لا أن يُعيد بناؤه من زاويته الخاصة، ويُقنع تدريجيًا بشكل لا واعي أن النجاح يعني التطابق مع النموذج. 

أهداف المعرفة التي لا تتضمن أسئلة مفتوحة، أو احتمالات تفسير متعددة، أو هامشًا للاجتهاد الشخصي، لا تجمّد عقل المتدرّب وحده، بل روح المؤسسة التي يعمل فيها، فتصبح راكدة جامدة غير قادرة على المواكبة والتغيير. 

حين يكون الهدف من التدريب هو استيعاب المعلومة فقط، فإن المعرفة تنتقل دون أن تُفكَّك. أما حين يكون الهدف هو مساءلة المعلومة، وإعادة بنائها، يبدأ المتدرّب رحلة التفكير، لا التلقّي.

أهداف معرفة محايدة، لا تزعج التفكير

من المعايير غير الشائعة، ولكن المؤثرة، لقياس جودة محتوى كتاب أو أي محتوى هو قدرته على زعزعة الأفكار، وإثارة الشك، وإعادة النظر في القناعات. أمّا المحتوى الذي يبقيك في منطقة آمنة، غالبًا يكون محتوى مكرر، لم يقدم منظور جديد أو رؤية مختلفة. ينطبق هذا المفهوم تمامًا على التدريب المؤسسي، فالدورة التدريبية التي تهدف إلى تكوين معرفة مُطمئنة ومريحة، لا تصنع أثرًا داخليًا ولا تحرّك التفكير. 

بالإضافة إلى دور المعرفة في هزّ طريقة التفكير، إحدى أدوراها هو تشكيل موقف من العالم. المعرفة التي لا تمنح المتدرّب مساحة لتكوين رأي، أو اتخاذ موقف، أو مواجهة مفارقة، تظل شكلًا من أشكال الاستهلاك المعرفي، لا أداة لفهم الواقع أو تغييره. صياغة الدورة التدريبية بعقلية تلقين القناعات ووجهات النظر، تجعل أهداف المعرفة المؤسسية (Learning Outcomes) مجرد بنود إجرائية، لا أدوات لبناء وعي مؤسسي (Organizational Awareness).

المعرفة التي تُقدَّم بلا موقف، أو دون سياق، تظل عائمة لا تسهم في تشكيل وعي المتدرّب. أما المعرفة الواضحة، التي ترتبط بالسياق وتستفز التساؤل، فهي القادرة على بناء رأي، وتكوين رؤية.

إعادة تعريف أهداف المعرفة في التدريب المؤسسي

حين تُصاغ أهداف المعرفة في المؤسسة على أنها قائمة حقائق جاهزة، المطلوب من المتدرّب أن يستوعبها ويطبقها، تتحول المعرفة من مساحة للتفكير إلى نقطة امتثال. المتدرّب الذي يتلقى المعلومات طواعية، من دون التساؤل عن أصلها، ومدى صحتها، والجوانب التي غفلت عنها، يجسد السيطرة المعرفية التي تشكلها المؤسسة بتقديم المعرفة كحقائق غير قابلة للنقاش أو التدقيق.

دور أهداف المعرفة المؤسسية أن لا تنتج موظف قادر على تنفيذ إجراء أو إتقان مهارة فقط، بل مفكّر يرى نفسه كمسؤول عن ترجمة سلوكه الفردي لصالح الرؤية الكبرى التي تتخذها المؤسسة، فيتحمل مسؤولية التفكير في جدوى ما يقوم به لتطبيق الرؤية المؤسسية، وما إذا كانت طريقة عمله تعكس ما يؤمن به فعلًا.

على أهداف التعلم (Learning Outcomes) ألا تكتفي بتحديد ما يجب أن يعرفه المتدرّب، بل تُهيئه ليتعامل مع المعرفة كمسؤولية فكرية؛ وأداة للتساؤل، وتحليل السياق الذي يعمل فيه. وعندما يتحقق ذلك، لا يعود التدريب مجرد وسيلة لإتقان الدور الوظيفي، بل يصبح أداة لتطويره ونقده، بما يخدم الرؤية المؤسسية.

صياغة أهداف معرفية تشكّل المسؤولية المؤسسية عند المتدرّب

غرس المسؤولية المؤسسية في عقلية المتدرّب لا تتحقق فقط من خلال إعادة صياغة أهداف المعرفة، بل بإعادة التفكير في تصميم المادة التدريبية بحيث تترجم هذا المفهوم

الانتقال بأهداف المعرفة من التلقين إلى تشكيل الوعي المؤسسي لا يتم دفعة واحدة، بل عبر مسار مدروس يمر بخمس مراحل معرفية، يهدف كل منها إلى بناء طبقة جديدة من التفكير والمسؤولية لدى المتدرّب.

عند تصميم الدورة التدريبية في ضوء هذهِ الأهداف المعرفية يتحوّل التدريب من أداة لنقل المحتوى، إلى وسيلة لتكوين موظف واعٍ بواقعه، قادر على التفكير في فعله، وربطه برؤية المؤسسة الكبرى.

الأهداف المعرفية في نظام مساق التدريبي

من الضروري أن تراعي أهداف المعرفة الخلفية المعرفية لكل متدرّب، ومستوى نضجه المهني، والزاوية التي ينطلق منها نحو الفهم. فالمعرفة لا تُفرض بطريقة واحدة على الجميع، بل تُقدَّم بمسارات تسمح لكل متدرّب بأن يتعلّم وفق احتياجه، ومرحلته الحالية.

يفعّل نظام مساق التدريبي هذه الفلسفة من خلال خاصية التصنيفات والمستويات، وهي أداة تتيح تنظيم الدورات التدريبية في تصنيفات ومستويات متعددة، مما يسهل على المتدرّبين العثور على الدورات المناسبة لهم، ويمنح المتدرّب قدرة أكبر على إدارة المحتوى وتوجيهه حسب احتياجات كل فئة.

خاصية التصنيفات والمستويات في مساق

تنظيم أفضل للمنصة
ترتيب الدورات بحسب مواضيعها وتخصّصاتها يسهّل على المتدرّبين التنقّل داخل المنصة، والعثور على المحتوى المرتبط باهتماماتهم الحالية أو احتياجاتهم العملية.

تحديد المستويات التعليمية بوضوح
تقسيم الدورات إلى مستويات (مبتدئ، متوسط، متقدّم) يمنح المتدرّب قدرة على تقييم نفسه، واختيار ما يناسب خبرته الحالية، دون إرباك أو محتوى غير ملائم.

تصنيفات قابلة للتخصيص
تنظيم الدورات بحسب الموضوع أو التخصص بسهولة، وإمكانية إنشاء تصنيفات مخصصة تساعد على ترتيب المحتوى بطريقة تناسب الجمهور.

إدارة مرنة وقابلة للتعديل
يمكن تعديل التصنيفات والمستويات في أي وقت، مما يمنح المؤسسة مرونة في الاستجابة لتغيّر الاحتياجات التدريبية أو تحديث هيكل الدورات.

الخلاصة: بأي عقلية نصمم أهداف المعرفة؟

ليست كل معرفة تُنقل في التدريب تؤدي إلى تغيير. فالمعرفة التي تُقدَّم كقائمة من الحقائق أو النماذج الجاهزة، تُخاطب عقلًا يُنفّذ ولا يُفكّر. لكن حين تُصمَّم أهداف المعرفة كمدخلًا إلى التفكير، والشك، والمسؤولية المؤسسية، تتحوّل إلى أداة تغيير.

التدريب المؤسسي لا يحتاج إلى مزيد من المعلومات، بل إلى معرفة تدفع المتدرّب إلى مساءلة ما يعرفه، ورؤية صلته بالمؤسسة، واتخاذ موقف مما يفعل. عندها فقط، تصبح أهداف المعرفة عنصر حي يحرّك المتدرّب نحو النضج المهني والشخصي. 

تصميم أهداف المعرفة هو الخطوة الأولى نحو تشكيل وعي مؤسسي قادر على النقد والتطبيق، وعي لا يكتفي بفهم النظام، بل يملك الشجاعة لتطويره.